بين سهولةٍ في اللفظ والتركيب ودقةٍ في المعنى والتعبير: المهارةُ الأدبيةُ للداعي الفاطمي سيدنا طاهر سيف الدين في الشعر

تستغرق قصائد الداعي الفاطمي الدكتور سيدنا طاهر سيف الدين معظم نصاب الأدب في الجامعة السيفية. فالطالب فيها -خلال مراحلها- يقرأ ويدرس ما يزيد على خمسة آلاف بيت منتخب من ديوانه العريض الذي يحتوي بكامله على ما يقرب عشرة آلاف بيت. وإنّ من حظِي بإلقاء نظرةٍ -عن تعلّمٍ منه- إلى شيء مما جاد به قلمه شعرا سيشهد بالإنصاف أن الداعي الفاطمي هذا يملك قوةً في العربية ومهارةً في الإنشاء الأدبي لا تنكران، وأنه من الجدير بالعالم العربي أن يقبله كشاعر عربي بليغ، وكذلك من الجدير بالحقول الأكاديمية أن تشمله – وما أسهمه في مجال الأدب من توفير ثمين – في دراساتها ومباحثها الأدبية.

يتميز شعر الداعي الفاطمي المذكور بسهولةٍ في الألفاظ، ومتانةٍ في الأسلوب، ودقةٍ في التعبير، وإصابةٍ للغرض في المعنى. ولعل السهولة هي أول ما يصادف القارئَ فيتأثر به عند تلقي شعره، فكأن أسلوبه يتحاشى التعقيد، وإنه لا يكاد يعسر على القارئ فهمُ كلمة أوردها أو يصعب عليه استدلالُ جملةٍ ركّبها. وإن مرّ هو بلفظة يحسبها غريبةً عنده فلا يحتاج الذهاب بعيدا – بل إذا نظر بشيء من الإمعان فيما قبلها أو بعدها فإنه يجد السياق يدل على عموم معناها بوضوح.

سيُقِرُّ كل من مارس شيئا من الكتابة أن التعبير عن المعنى الدقيق أو الفكرة العميقة أمرٌ عسيرٌ. وربّما يأتي الغموضُ في الألفاظ والتعقيدُ في التركيب كلما كان المعنى أدق والفكرة أعمق. وأشد ما يكون ذلك إذا أريد صياغته ونظمه في بيت موزون بما فيه من قيود. أما أن يكون البيت المنظوم يسهل على اللسان في النطق، ويسهل على الذهن في الفهم بحيث يستوي في إمكان إنشاده وحفظه وفهمه الصغيرُ والكبيرُ، والمتعلمُ للأدب وغيرُ المتعلم له، والناطقُ بالعربية وغيرُ الناطق بها – ثم مع ذلك يجمع البيتُ في مطاويه معانيَ وسيعةً عميقةً، ويتضمن مواقفَ تأملاتٍ أدبيةٍ دقيقةٍ بحيث يأخذ منه قسطَه أهل العلم والعقل والأدب على مختلف طبقاتهم – فذلك ما يستصعب مرامه ويبعد تعاطيه إلا عن الفحول والأفذاذ ممن لهم باع بعيد في إدراك أسرار العربية.

وإني أُورِد في هذا المجرى بيتا فريدا للداعي الفاطمي المذكور، مختارا من بعض قصائده في مدح أهل البيت من آل محمد صلع وأعقِّبُه بتحليل أدبي على نية إبراز ما فيه من معان دقيقة ومحاسن أدبية ونظم بليغ، مع ما فيه من السهولة في الألفاظ والتركيب. وأنا في جميع ذلك مُعترِفٌ بكوني طالبا متعلما، وأفكاري –إن كانت مصيبة– فمما تعلمتُه من أدبه، لأني –منذ عنفوان الصِبا– تنشأتُ على قراءة نظمه ونثره. وبالله تعالى التوفيق.

يقول الداعي الفاطمي في مدح دعاة آل محمد صلعالطيبيبن ووَصْفِ شجاعتهم وقِتالهم في ميدان الحرب:

فُرْسان صدقٍ كُماة وَسّعت لهم

*

المفاخرُ الغرُّ والعُلْيا الميادين

يقول: الدعاة أبطالٌ وشجعانٌ، ينزلون المعركة راكبين الخيول ويصدقون القتال أي: يبذلون فيه مجهودهم، ومفاخرُهم التي تُتصف بالإضاءة (الغُرّ) وبالعلوّ (العليا) تُوسِّع لهم ميادينَ الحرب، فلا يضيق بهم مكان الحرب عند التحام القتال كما يضيق بغيرهم من المقاتلين.

إنه واضحٌ -لكل من تعلّم شيئاً من العربية- أن البيت في غاية من السهولة من جهة الألفاظ وتركيب الجمل، وعموم معناه لا يتعسر فهمه على المبتدئ في اللغة لو أشير له به، لا غموض فيه ولا تعقيد. فالبيت يشتمل على جملتين: اسمية وفعلية. أما الجملة الأولى الاسمية فهي قوله- “فرسان صدق كماة”. “فرسان صدق”: مضاف ومضاف إليه، خبر لمبتدأ محذوف تقديره “هم” (وقد يكون المضاف -فرسان- نعتاً لما قبله). و”كماة”: نعت تابع لـــ “فرسان”. ثم الجملة الأخرى الفعلية فهي قوله- “وسّعت لهم المفاخر الغر والعليا الميادين”. “وسّعت”: فعل ماض متعد فاعلُه “المفاخر” ومفعولُه “الميادين”. وكلمة “الغُرّ”: صفة للمفاخر، وهي جمعُ “أغر” أو “غراء” على وزن “فُعْل” جمعُ “أفعل” أو “فعلاء”. وكلمة “العُليا” المعطوفة بالواو على “الغرّ” أو على “المفاخر” هي مؤنث “أعلى” للتفضيل على وزن “فُعلى” مؤنثُ “أفعل” للتفضيل. (لو تُعتبر كلمة “العليا” معطوفة على “الغر” فهي إذن صفة ثانية لــ “المفاخر”، ولو تُعتبر معطوفة على “المفاخر” فموصوفها محذوف، لأن الصفة تقتضي موصوفا، وقد تُفسِّر المحذوفَ كلمةُ “المفاخر” المذكورة – على تقدير: “المفاخر الغر والمفاخر العليا”).

البيتُ -مع هذه السهولة في الألفاظ– مشحونٌ بالمحاسن ولا يخلو من مواقف للتأمل هي مسرح المتذوقين والممارسين للأدب العربي، وسيتضح بعد التحليل أن كل لفظة في البيت مختارٌ من المُنشِئ على دقة ومعرفة بما يحمله من أصل المعنى وظلاله. وذلك إن أنبأ بشيء فإنه يُنبئ عن تمكُّن المُنشئ في العربية وعن تفطُّنه لأسرارها الخفية.

لو غاص القارئ في استدلال معنى كلمة “كُمَاة” ومعنى كلمة “مَفَاخِر” سيجد بين مستلزم دلالتهما تضادا ينشأُ عنه معنىً لطيفٌ ينبغي للمتذوق في الأدب صرف النظر إليه. فكلمة “كُمَاة” جمعُ “كَمِيّ” وهو الشجاع المتَكَمّي في سلاحه لأنه كمَىَ نفسه أي: سترها بالدرع والبيضة، أصلها من كمَىَ الشيءَ وتَكَمّاه: سَتَره. فدلالة كلمة “كماة” تستلزم “الاختفاء والتستر والتنكر”، لأن الشجاع المِقدام المتكمّي في درعه وبيضته بحيث لا يُرى إلا إنسان عينيه – تختفي هويته على من يعاينه وتتنكر شخصيته، ولا يتحقق الرائي بمن هو المقاتِل وراءَ الدرع والبيضة. أما كلمة “مَفاخِر” فإنها جمع “مَفْخَرة” و”مَفْخَر”، وهو ما يُفخر به، والفخر بالشيء يقتضي إظهاره ليتفضل به على الغير. ويأتي أيضا معنى “المفخرة” أنه “المأثرة” وهي المكرمة التي يأثرها قرنٌ عن قرنٌ أي: يتحدثون به. وجميع هذه الدلالات تستلزم “الظهور والاشتهار والتعرّف” لأن الشيء لا يكون مفخرة إلا إذا عرفه الناس وتحدثوا به وقد عُدّ به الفضل لصاحبه على غيره.

فهناك تضاد معنوي واضح بين كلمة “كماة” بما يستلزمه معناه من “الاختفاء والتستر والتنكر” وبين كلمة “مفاخر” بما يستلزمه معناه من “الظهور والاشتهار والتعرّف”. لكنّ تقابُلَ المعنيين المتضادين هكذا يُبرز مبالغةً لطيفةً في وصف شجاعة الممدوحين ووصف بسالتهم في ميدان الحرب. فكأن هؤلاء الدعاة معروفون بين الناس في الشجاعة وشدة البسالة لا يُنكِر ذلك لهم أحد، ولكنهم حين ينزلون في ميدان الحرب للقتال يتنكرون في الدروع السابغة فلا يُتعرَفون بمجرد النظر إليهم. حتى إذا شرعوا في القتال وأظهروا حملاتهم المعروفة تلك والمأثورة – وتَوَسَّمَ العدوُّ المقاومون إياهم أسلوبَ قتالهم ولاحظوا طرزَ سطواتهم – عرفوا عندئذ أنهم أولئك الشجعان الذين سمعوا كثيرا عن شجاعتهم وأثروا عنها خلال القرون فيما بينهم، وإذا عرفوا ذلك تيقنوا أن لا طاقة لهم بهم في مبارزتهم فتخلوا عن طريقهم وانهزموا أجمعين من بين أيديهم – فمن ههنا وسّعت المفاخرُ لهم (اي للدعاة الفرسان) ميادينَ الحرب.

ثم إن للمتذوق –بعد هذه القراءة– أن يقف وقفة تأملٍ على كلمة “الميادين” التي أُتي بها على صيغة الجمع، فالجمع يدل على تعدد الميادين، وبالترتيب يدل تعدد الميادين (حسب الاعتبار السابق) على تعدد الانهزامات، ففي كل ميدان من مفاخرهم توسيع وانهزام. كأن كلمة “الميادين” وصيغة جمعها تُوحي إلى ما لهؤلاء الفرسان الكماة من الرعب – رعبٌ يتجاوز أثرها إلى ميادين أخرى بعيدة عن الميدان الذي نزلوا فيه. وكأنهم إذا نزلوا بميدان للقتال تَسَامَعَ الناسُ بمفاخرهم وبما لهم من شدة البأس، وانتشرت بذلك الأخبار في ميادين أخرى قد اجتمعت جماعات الأعداء فيها للقتال أمامهم، وكأن بكل ميدانٍ مجتَمَعٍ فيه وُقوع انهزامٍ في الأعداء بما ألقي في قلوبهم الرعب من مجرّد سماع الأخبار الهائلة عن أولئك الفرسان الكماة.

أجعلُ هذا المبلغ من التحليل نهايةً للمطاف. ولست أدّعي -بما عرضتُ- استنفادَ ما في البيت الواحد هذا من إفادات أدبية، فإنه قد بقي ملاحظاتٌ تركتُ ذكرها لما أَسْتقْبِلُه من الفُرَص المرجوة إن شاء الله تعالى. وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وأصحابهم أجمعين وبارك وسلّم.